الثلاثاء، 5 يناير 2010

قهر العجز العربي


من رسالة الأمين العام للأمم المتحدة إلى حفل إعادة افتتاح مركز ابن خلدون يونيه 2003 .....
" ... ولكن التاريخ يخبرنا بأنه في بعض الأحيان يمكن فقط للرؤى الراديكالية جدا أن تتخطى العوائق القائمة أمام التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، لقد آن الأوان للعالم العربي لكي يمتلك مثل هذه الرؤية ويحولها إلى واقع ، وأن الأ&atildcedil;لأمم المتحدة سوف تستمر في كونها شريكا لصيقا من أجل تحقيق هذا الهدف ..... " .
قدم لنا الأمين العام للأمم المتحدة من خلال رسالته ملخصا لمشكلات الأمة العربية كإقليم يتمثل في :
العجز عن إيجاد الصيغة المناسبة لتسريع التنمية الإنسانية ، وحفز النمو العادل على الرغم من إمكاناته الهائلة ، ولذلك فقد تراجع إلى الوراء بالنسبة لبعض من طفرات التقدم الهائلة في العصر الحديث في مجال التقدم المادي والتقني ، بل وتراجع أيضا في تطوير المعرفة والحرية الإنسانية ، مما يعني استمرارية استسلامنا للعجز بعد أن انهارت مقاومتنا بفعل تجاربنا الفاشلة العديدة والمتوالية .
كما حدد لنا في رسالته من خلال الإخبار التاريخي :
الطريق الوحيد الواجب إتباعه ويتمثل في صيغة خاصة " نوع من الرؤى " لا خيار أمامنا إلا امتلاكها بعد التعرف عليها إن أردنا الإصلاح .
ويستطرد قائلا :
وقد آن الأوان لهذا الامتلاك وتحويل هذه الرؤية المحددة إلى واقع .
والأمم المتحدة شريك لصيق لنا من أجل تحقيق هذا الهدف .
والرؤى الراديكالية تتصف بأنها متطرفة عن الواقع الذي شوه بالأخطاء المتراكمة ، على أن تكون ثورية ، وأيضا تكون فطرية وتتسم بالأصالة وترتبط بجذور أمتها .
وعلى الرغم من أننا نمتلك فعلا لرؤية من هذا النوع منذ أكثر من ثلاثين عاما وقد تكون هي الرؤية الوحيدة الصالحة لتحقيق هذا الهدف إلا أن أحدا لم يلتفت إليها ، رغم الدأب في عرضها ، وفشل كل من حاول دحضها أو تكذيبها أو تقديم بديل عنها ، ومازال التدهور مستمرا وانهارت مقاومتنا واستسلمنا للعجز " العوائق " .
وبعد أن تم التحديد لهذا النوع فقط ودون غيره من خارج أمتنا ، وأغلب الظن دون وعي من المحدد بما يمكن أن تكون عليه ، وقذف بها في وجوهنا جميعا .
فهل يمكن أن نتعرف عليها وهى بين أيدينا مستفيدين من طاقات وإمكانيات الأمم المتحدة في تحويلها إلى واقع لنوقف هذا الانهيار ونتقدم ؟
أم نضيع الفرصة ونستمر في المكابرة دون حياء حتى ضياع هذه الأمة كلية ؟
أم تعودنا سجن أنفسنا بألا نصنع شيئا مفيدا إلا حسب تعليمات السيد / ....
لقد أقيمت عليكم الحجة يا سادة .
أعتقد أن ثلاثين عاما ضاعت على هذه الأمة ( جيل كامل ) ، والظرف الفارق الذي نعيشه كفيل بأن يجعلني غير عابئ بشيء في سبيل مناقشة هذه الرؤية .
فهل آن الأوان فعلا حتى نأخذ الأمر بجدية الآن وبعد طول عناء ؟ !!!
هذا ما أرجوه .
-
القهر هو الإخضاع والسيطرة
والعجز هو عدم القدرة على تخطي العقبات لتلبية الاحتياجات .
فالعجز هو التحدي الدائم لكل ما هو حي لاستمرار حياته ، ولولا محاولات قهر العجز المستمرة ما تقدمت الإنسانية قيد أنملة .
والعجز يقف أمامنا بالمرصاد وفي كل مناحي الحياة ، سواء كان على المستوى الشخصي أو الجماعي .
ونختار حياله موقف الاستسلام أو المقاومة أو القهر ، لكل حالة حسب ما نستطيع أو نريد .
الاستسلام للعجز وله جانبان :
إيجابي : ويتمثل في الاستسلام أمام الدستور والقوانين ، وما يتم الاتفاق عليه .
سلبي : ويتمثل في الاستسلام أمام العقبات فيؤدي إلى التدهور باستمرار نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية حتى يصل إلى الموت .
مقاومة العجز
هي محاولة التعايش بما هو متاح للاستمرار وله جانبان :
إيجابي : بإتباع المنهج العلمي والمنطق
سلبي : باستخدام الترقيع والتلفيق والالتفاف حول المشكلات وتجاهلها .
قهر العجز
وله وجهان :
إيجابي : بتفعيل الاكتشافات بما يعرف بالطفرات العلمية أو الثورات الفكرية ، وتنسحب تبعات هذا القهر للعجز على كل مناحي الحياة بالتداعي ، وهو ما يؤدي إلى التقدم ، وينتج عنه ظهور عجز آخر أو أكثر أشد عمقا ، يحتاج إلى قهر جديد لاكتساب خطوة أخرى في طريق التقدم .
سلبي : بتخطي الدستور والقوانين ، وذلك بطغيان السلطة التنفيذية على التشريعية والقضائية ، مما يساعد على تفشي كل الأمراض المجتمعية .
فداخل الأمم المتقدمة غالبا ما يتم الأخذ بالجانب الإيجابي ، أما العالم العربي فقد اختار الموقف السلبي ، وكان الاستسلام للعجز من نصيب قضايانا المصيرية .
بل والأخطر من هذا أننا لا نستسلم فقط ، لكننا نقاوم بكل ما أوتينا من قوة محاولات البعض لقهر العجز أمام قضايانا .
-

وبعيدا عما يمكن أن توصف به حالتنا المرضية هذه وما يمكن أن تؤدي إليه ، إلا أنه من خلال رصد الواقع يمكن تقديم نموذج كدليل على هذه الحالة .
فمن خلال الحوارات داخل مؤتمر " نحو خطاب ثقافي عربي جديد " المنعقد بالمجلس الأعلى للثقافة الفترة من 1 : 3 يوليو 2003 .
تم الإقرار والاعتراف من كل النخب الفكرية بفشلهم جميعا في إيجاد هذا الخطاب المستهدف والوحيد من المؤتمر ، أو مجرد الاقتراب منه .
بل والأسوأ من هذا : من المفترض أن تخرج توصيات أي مؤتمر جاد في حدود إمكانية تحقيقها ، ولكن ألفنا على أن تخرج توصيات مؤتمراتنا تعبيرا عن أمانينا وطموحاتنا ليس بهدف التنفيذ لعلمنا المسبق بعجزنا ، بل بهدف التعتيم والتعمية حتى لا يتم الإقرار بالفشل أمام العامة ، وهذا هو سبب عدم تنفيذ توصيات مؤتمراتنا بصفة عامة .
وهكذا خرج القائمين على المؤتمر المذكور :
بإعلان القاهرة " مجرد إعلان " ، وكما هي العادة في مثل تلك المؤتمرات .....
يبقى السؤال الواجب الإجابة عليه كما هو بلا إجابة متحديا الجميع ... وبدون أي أمل في تحقيق الأهداف المنشودة .
ومن المفيد أن نذكر تلك التوصيات عن المؤتمر والتي نعجز عن تنفيذها ، على الرغم من قيمتها وذروة احتياجنا لها ، ولنتعرف على ما تصادفه من عقبات ، ومدى إمكانية إزالة تلك العقبات ، فيما يلي :
1 – وحدة الثقافة العربية عاملا أساسيا لوحدة الشعوب العربية ، هذا هو أساس مشروعنا الثقافي .
ولا أريد أن استطرد في مدى احتياجنا إلى تنفيذ هذه التوصية ، سوى القول بأنه لن تقوم لنا قائمة كأمة إلا بتنفيذ هذه التوصية .
لكنها تبقى مجرد مشروع " أمنية " دون وجود رؤى أو آليات لتنفيذها ، وأين وحدة الشعوب العربية هذه ، أمنية شيدناها على أمنية .
وما المقصود بوحدة الثقافة العربية ؟
من خلال الحوارات التي تمت يتضح أن المعنى يتمحور حول الرغبة في " فصل الدين عن الدولة " ، وإطلاق حرية الخروج من الدين ... وأن نتجه نحو الديمقراطية والليبرالية والعلم والتكنولوجيا لتحقيق التنمية والتحديث .
وهنا تظهر إشكالية القبول الاجتماعي ، والشأن الإسلامي .
2 – انجاز الاستقلال الوطني والحفاظ عليه والدفاع عنه ( فلسطين ، العراق )
مطلب يمس الأمن القومي العربي في الصميم ، والتي تحيط به الأخطار من كل جانب .
ولا نعرف كيف يتم هذا دون تحقيق توجه عربي موحد
وهنا تظهر نفس الإشكالية على الحل ( الشأن الإسلامي ) .
لكننا نحاول تسوله دون إجابة من الآخر الذي نستجديه والذي هو صاحب المصلحة في تهديد أمننا القومي .
3 - المقومات التي تدفع إلى اليأس قادرة للدفع على النهوض .
وهذا إقرار بحقيقة لا يمكن تحقيقها إلا إذا استطعنا التعامل مع هذه المقومات بإيجابية لتحويلها في اتجاه النهوض .
وهذا مرتبط بالشأن الإسلامي .
4 – إلغاء الأوضاع المعرفية التي تحاصر العقل العربي للوصول إلى أفق مجتمعي جديد .
وهنا نحتاج إلى فكر نقدي لاستيعاب الأخطاء التي لازمتنا ، وهذا يحتاج إلى تغيرات جذرية في حياتنا السياسية والاجتماعية ، متزامنة مع البحث عن منهج للتعامل مع الشأن الإسلامي .
5 - تطوير التعليم العام والجامعي ومحو الأمية .
وهذا يعود بنا إلى الشكل الثقافي الذي نريده والذي ما زلنا نبحث عنه ولم نجده ، وهذا مرتبط أيضا بالشأن الإسلامي .
6 – ضرورة الوصول إلى خطاب ديني متطور ينفتح على العصر في ظل موقف محايد من الأفكار .
وهذا يرتبط بوجود فكر نقدي في المجال الديني .
وهذا مرتبط ببؤرة الشأن الإسلامي .
7 – وحدة الحضارة الإنسانية وخصوصية الأمة العربية .
والسؤال : ما هي خصوصية الأمة العربية ؟
وهذا يعود بنا إلى إشكالية الهوية ، والتي مازلنا نبحث عن طريقة للتعرف عليها دون جدوى .
وهذا يعود بنا إلى الشأن الإسلامي .
8 – تأمين التمكن من وصول الثقافة للمجتمع كله .
هل توصلنا إلى نوعية هذه الثقافة ، والتي يجب أن نوصلها للمجتمع كله ؟
9 – الخروج عن الصمت وتحدي القمع والتهميش .
وماذا عن رد فعل تحدي القمع ، والذي يحول مجتمعاتنا إلى بؤر من الصراع الغير محتمل ، علاوة على تشتيت الجهود .
وماذا عن تحدي التهميش والتجاهل وترك الأفكار مهملة لتموت أو ليموت أصحابها .
ولا جدوى من الخروج من الصمت إلا بتكريس الفكر النقدي داخل مجتمعاتنا ، والذي يستبعد الأخطاء بديلا عن استبعاد الآخر .
مما سبق يتضح أن الشأن الديني " الإسلام " هو محور كل مشكلاتنا .
فلابد من النظر في هذا الشأن الإسلامي أولا وتحديد موقفنا في التعامل معه لتفعيل الحلول التي قد نجد لكل هذه المشكلات ، وكما قال على فخرو : ليس هناك أي أمل في الإصلاح ولو بقينا ألف عام في محاولات دون أن نحل هذه الإشكالية ( الإسلام ) .
وقد أكدت على هذا داخل المؤتمر ، فلابد من أن نفعل هذا أولا ثم نفكر في التحديث ومسايرة العصر بإنتاج العلم دون معوقات بديلا عن استيراده ، وقد تم تجاهل هذا القول بسبب عجزنا عن فتح هذا الملف .
وبالرغم من الإعلان داخل المؤتمر بوجود رؤية لحل هذه الإشكالية ، إلا أنه تم التجاهل مثلما كانت العادة معي طوال ربع قرن ، على أمل المقاومين بموت الفكرة بموت صاحبها ، وكثيرا ما يحدث ذلك ، مقاومة مستمرة طوال ربع قرن لرؤية - إن صحت – تمكننا من قهر عجزنا عن تحقيق التنمية من خلال حل إشكالية الشأن الإسلامي .
وطبعا لابد من أسباب قوية لهذه المقاومة ، يمكن استنتاجها متمثلة فيما يلي :
إحساس النخب بالعجز لعدم وجود رؤية لديها ، فيتم استبعاد إمكانية وجود رؤية لدى أي أحد .
ومن هذا الأحد ؟ !!!!! ، وما هي مؤهلاته ؟ ( ازدراء ) متناسين قول الله " وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ، علاوة على ما بالمناخ الثقافي من ضوضاء - صناعة النخب - اختلط فيها كل شيء ، فلا يكلفون أنفسهم عناء النظر فيما يمكن أن يقدم إليهم ، وخاصة إذا ما كانوا مهمومين بمحاولات الاقتراب من السلطة .

والمقاومون فئتان

أولا : الفقهاء
1 – لعدم الثقة في قدراتهم على رؤية الدين بمنظور نقدي ، وخاصة أنهم لم يألفوا ذلك ولم يتعلموه ، على الرغم مما هو ظاهر من اختلافات ، وكثيرا ما تصل إلى حد التناقض .
2 – الخوف من تعرية أنفسهم في ظل نظرة التعالي المغلفة بالورع الذي يعيشون بها .
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف الإيمان ، وعدم الثقة بالدين الذي يمثلونه وجعلهم في مراكز مرموقة ، فيخافون على ما بحوزتهم من الانهيار ( إعلاء الشأن الخاص على العام ) ، ناهيك عن اعتماد السلطات الحاكمة على سلطة الدين في الحكم .
ثانيا : العلمانيون
لأنهم يعتمدون على ما في التراث الديني من أخطاء وتناقضات بهدف التخلص من الدين والانسلاخ عنه ، فقد حاولوا مرارا وتكرارا بيان هذه الأخطاء والتناقضات ، فقوبلوا بمقاومة عنيفة من المتطرفين وغيرهم وصلت إلى حد التصفية والاستبعاد اعتمادا على مشاعر الجماهير المتمسكة بدينها ، وهؤلاء هم الصفوة الفكرية داخل مجتمعاتنا .
وكان يفترض فيهم أن يحلوا محل هؤلاء الفقهاء وينظروا في هذا الدين من خلال مصدره الأساسي ( القرآن الكريم ) نظرة نقدية لاستبعاد الأخطاء الفكرية التي وقع فيها أسلافنا ـ فتظهر حقيقة الدين ليكون لنا توجه عام واحد " علمي " ، أليس هذا دينهم !!! .
ولكن بدلا من ذلك أخذوا يتشككون في الدين تارة ، ويؤكدون على زيفه تارة أخرى ، والقول بأن القرآن منتج ثقافي ، وبأن كل الأديان منسوخة من الحضارة المصرية القديمة ، بل والبعض يتشككون في وجود إله أصلا .
وكل ما يرجونه في هذا الصدد هو " فصل الدين عن الدولة " ، وما تزال تلك دعواهم استرشادا بما فعلته أوربا ، ولكن ما تزال أمامهم عقبة القبول الاجتماعي قائمة ، والتي تعيق هذه الدعوة لمغايرة الظروف الدينية والاجتماعية والظرفية لدينا عما كان في أوربا .
إن الذي لا يتعامل بفكر نقدي فهو إما مجنون قد حبس نفسه في إطار لا يرى غيره ، أو فاقد الثقة فيما بين يديه ويخاف عليه من الضياع ، فيركن إلى الارتجالية والفوضى ، والترقيع والتلفيق ، والالتفاف حول المشكلات طالما يحقق أهدافه الخاصة ، وهذا حالنا !!! .
-
أعتقد أنه من الغير مشكوك فيه أننا كأمة نعيش لحظة حاسمة من حياتنا وغير مسبوقة ، إما أن نسارع بأن يكون لنا وجود في العالم كمساهمين أو مآلنا إلى التلاشي والذوبان في الآخر ، وفقد كل خصوصية لنا ، وخاصة ديننا كرسالة عالمية .
وإن كان ما قمت به من تشخيص لأمراضنا رصدا من الواقع صحيحا فيكون السؤال :
ما العمل أمام هذا المأزق الخطير ؟ ، والذي وضعنا فيه أنفسنا باختيارنا .
أعتقد بأنه لا خيار أمامنا إلا الرضوخ للواقع وما نعيشه من تخلف وتبعية ، أو الإجابة بفكر نقدي على سؤال طال التعتيم عليه والمراوغة حياله رغما عن أنه يمثل محور مشكلاتنا وهو :
هل الإسلام " حقيقة / صدق " أم " وهم وادعاء " ؟؟؟ .
سؤال يثير الفزع لكلا طرفي المقاومة " الدينيين ، العلمانيين " ويثير الراحة في نفوس الباحثين عن الحقيقة من كلا الطرفين ، الذي يحاولون الاقتراب منها والاستمتاع بها " من هداهم الله " .
فإذا ما ثبت عدم قدرة القرآن الكريم " كنواة صلبة " على الصمود أمام محاولات النقد والتكذيب ، كانت انتكاسة القائمين على الدين بفقد سلطاتهم ، وخرجنا نحن من وهم التدين .
وإذا ما كان الصمود قائما لا تقوى عليه كل محاولات النقد والتكذيب كانت انتكاسة العلمانيين ببيان زيف دعواهم ، وانتصار الإسلام وتوحدنا حوله بتوجه عام واحد .
أما الباحث عن " الحقيقة / الصدق " فيتلمسها أينما وجدها ، وتكون السعادة من نصيبه .
فهل نختار " غش أنفسنا " أم نستمتع بمحاولات الاقتراب من " الحقيقة / الصدق " ، والتي تعين الإنسان في الوصول إلى ما يصبوا إليه .
فلا سبيل لنا إلا الإجابة على السؤال المطروح .
ولكن لماذا كانت الإجابة على هذا السؤال حتمية الآن ؟
لأننا نعيش في عالم متسارع التطور والنمو نحو مجتمع إنساني موحد ، وبدأت تتبلور فكرة محوري الخير والشر ، ووقع صدام بيننا وبين الغرب بسبب ما يدعيه البعض من توجهات تم تفعيلها لأهم خصائصنا " ديننا " جعلت أمتنا توضع في دائرة الشر ، ولهذا السبب تجبه العالم كله ضدنا ، سواء كان برضا بعضه أو رغما عن البعض الآخر .
ومن خلال المواجهة اتضح موقفنا أمام العالم ( كشأن إنساني عام وليس شأن عربي خاص ) على النحو التالي :
أننا نتحدث بألسنة وتوجهات مختلفة وندعي أنها جميعا من الإسلام ، وتاه الإسلام الصحيح إن كان موجودا بين هذه الرؤى المتباينة وأصبحنا في تيه ولا ندرى في أي طريق نسير وتعددت المؤتمرات والندوات والأبحاث والدراسات بهدف تحسين صورة الإسلام دون جدوى ولم يخرج علينا أحد حتى الآن برؤية تنير لنا الطريق .
حتى ازدادت أزمة الثقة فيما بين توجهاتنا وديننا ، وأصبح كل منا متمسك برآه ولا يرى ولا يسمع إلا نفسه ويود أن يجر الأمة في اتجاهه ، أو ينفصل هو ومن معه باحثا له عن انتماء آخر ، وكانت المحصلة ليست صفرا ولكن سلبا " تدهور مستمر " .
فإلى متى سوف يستمر هذا التدهور ، وإلى أين سيصل بنا ، وأين الإسلام كرسالة نتغنى بأنها رحمة للعالمين ، وإلى متى يصبر العالم المتقدم علينا ، وما ثمن ذلك ؟
أسئلة عديدة لا تجد إجابة سوى الخراب والدمار لهذه الأمة كأمة ولن يتبقى سوى شعوب ممسوخة لا تملك ثرواتها لكنها بذاتها مملوكة " عبيد العصر الحديث " .
-
ولما استشعر الجميع هذا التدهور بدأ نشاط مضطرب يدب في أوصالهم ، كل يحاول تجميل صورته مبتعدا بنفسه عن تحمل مسئولية ما يحدث ، ملقين بالتبعة على الأفكار الإسلامية المتشددة متناسين أنها والمعتدلة من فكر تراثي واحد يتم منه الانتقاء .
فالمؤسسات الدينية حاولت التخلي قدر ما تستطيع عن الأفكار المتشددة والتي يمكن أن تتهم بسببها بمساندة التطرف ، مطالبين بتجديد الخطاب الإسلامي ليتواءم مع المجتمع المدني . والعلمانيون بدؤوا بتشديد المطالبة بتنحية الدين عن كافة الأنشطة الحياتية وقصره فقط على الجوانب التعبدية .
والمشكلة أمامهم جميعا كيف يمكن تحويل الإنسان العربي المسلم ليكون ليبراليا بعد أن عاش حياته جميعها وعلى مدى تاريخه كله تسلطيا وخانعا .
ومن جانب آخر كيف يمكن قبول هذا الفكر الانتقائي من التراث الديني دون النظر إلى شبهة هذا التحول ، وماذا عن أصحاب الفكر المضاد ( المتطرف ) المتنامي من نفس التراث ؟ وهل نعلن الحرب عليهم ؟ ونقصيهم من مجتمعاتهم ؟ وهل سيستقيم الأمر في وجود صراع فيما بين الاتجاهين ؟ وأمام سؤال يثار مفاده : أي التيارين يمثل الإسلام الصحيح ، وماذا عن القبول الاجتماعي لهذا الخلل .؟
وأمام العقبة الكأداء هذه ، وهى الأفكار الدينية المتباينة إلى حد التضاد ، والتي جعلت المطالبون بتجديد الخطاب الإسلامي لا يعرفون كيف يمكنهم تحقيق مطلبهم هذا ، في ظل تمسكهم بمناهجهم الفكرية الانتقائية هذه ، والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه ، هل سيقومون بإعدام أفكارهم وإنتاج أفكار جديدة متمسكين بمناهجهم القديمة والتي لا يعرفون غيرها ، والتي لن تنتج سوى ما هو مثل الأفكار القديمة أم يتخلون أيضا عن هذه المناهج ، وأي المناهج يتبعون ومن سيقوم بهذا ؟ .
إشكاليات عديدة تبحث عن حلول جريئة لم تجد من يتصدى لها .
وما زلنا نقف في نقاط متباعدة ولا نرى إمكانية لنقطة التقاء فيما بين الداعين للحياة المدنية من جوانب سواء منهم العلماني المؤمن وغير المؤمن ، والطوائف الإسلامية المتطرفة والغير متطرفة من جوانب أخرى .
فالمشكلة لدينا تتمحور في الوصاية على الفكر الديني بالتصدي لمحاولات انتقاده وكذلك الصمم والتجاهل والاستبعاد والتعالي الذي أصاب النخب في مجتمعاتنا ، فأصحاب كل إطار فكري لا يستمعون إلا إلى أنفسهم ويستبعدون أصحاب الأطر الفكرية الأخرى علاوة على أن النخب هي المسموح لها دون غيرها أن توجه خطابها إلى الشعوب فيما يشبه عمليات غسيل المخ ، وإذا ما اجتمعت نخب من أطر فكرية متعددة للبحث في مشكلة كانت ( مكلمة ) كما يقولون لا يصلون من خلالها لشيء وتفرض أطر أصحاب النفوذ الأقوى ويستمر الحال على ما هو عليه .
لذا كان ولابد من الإجابة على السؤال المطروح لفك الاشتباك والوصول لتوجه عام واحد قدر الإمكان .
والبديل أن نظل في صراع إلى أن يقضي بعضنا على بعض بمساعدة الآخر .
فإن كان الإسلام وهما وادعاء كما يقول العديد من فلاسفتنا وعلماؤنا في السر والعلن ، فهل سيستمر في غش أنفسنا ونتسبب في ضياعنا فهذا جنون أو سفه ، أم يجب أن ننطلق مع المنطلقين ونتخلى عن المعوقات التي أربكتنا والمتمثلة فيما يسمى الإسلام .
أم هو حقيقة / صدق كما هو في وجدان السواد الأعظم من المسلمين فيجب التخلي عن الدعاوى الزائفة ونتحمل مسئولياتنا جميعا لتوحيد قوانا مساهمين في رفاهية الإنسان من خلال الإثبات أنه أي الإسلام حقيقة / صدق ذو توجه واحد .
-
أعتقد في إمكانية اتفاقنا جميعا لحل هذه الإشكالية باستدعاء التاريخ كما في الرسالة التي ألقى بها إلينا كوفي عنان من خلال التجارب الناجحة للأمم المتقدمة ، فقد اتضح من خلال كل التجارب وبدون استثناء أن النجاح في حل كل الإشكاليات وكذلك التطور المضطرد في كل المجالات لم يتأتى إلا في ظل مجتمع يسود فيه الفكري النقدي ( العلمي ) ، فلا إنتاج للعلم دون نقد ، والنقد يعني استبعاد الأخطاء بديلا عن استبعاد الآخر ، أيا من يكون ، ومن هنا فقط يتم التطوير والتحديث والتنمية (التقدم ) مما يجعل هذا المتقدم يعيش ثورة فكرية مستمرة وفي تطور متسارع .
فمن المعلون أن الإنسانية لا تتقدم إلا عن طريق الاكتشافات ( الثورات الفكرية ) ، وغالبا ما تكون فردية ، وفي كثير من الأحيان تأتي هذه الاكتشافات من غير المعنيين ( غير الأكاديميين ) ، ولكن حرية الصراخ التي نعيشها تقتل فيها الأفكار بعدم مناقشتها وتجاهلها ( إغفالها ) حتى تموت الفكرة تلو الفكرة ، وتضيع الفرصة تلو الفرصة ولا يتبقى غير النخب الذين أعلنوا فشلهم جميعا ولا تجد إلا الاهتمام بالشأن الخاص .
من هنا يجب علينا أن نخرج من أطرنا الفكرية الضيقة بتفعيل الحوار بفكر نقدي فيما بين الأطر الإسلامية المتعددة والخروج برؤية شاملة تعبر عن الإسلام الصحيح ، ثم مع الأطر الفكرية الأخرى لاستبعاد ما يمكن أن يصادفنا من أخطاء بأي إطار فكري أو أكثر ، وبذلك نصل إلى توجه عام واحد أكثر صحة ، نحن نحتاج إلى ثورة فكرية ، فواجبنا السماح بعرض الأفكار وخاصة إذا ما كانت من أطر فكرية متباينة حتى نصل إلى إطار أكثر رحابة من الأطر الأقل ضيقا ، فكلما اتسع الإطار العام باحتوائه على أطر فكرية أخرى ليدخل بها في إطار أكثر اتساعا كلما كان للمجتمع توجه عام واحد أكثر تركيزا وتفعيلا .
-
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى تجربة معاشة كمساهمة بهذا الصدد تمت من خلال اكتشاف علمي قابل للتطبيق التكنولوجي من القرآن الكريم صمد أمام كل عمليات النقد والتكذيب التي وجهت إليه على مدى ثلاثين عاما بصور متعددة حتى وصلت في نهاية المطاف إلى التهرب من المواجهة من قبل مؤسسات إسلامية كبيرة وعريقة ، وهذه الدراسة منشورة على الرابط http://resaletnour.8m.com/ وقد تم التوصل من خلال هذا الاكتشاف إلى منهج يمكن من خلاله توحيد الأمة الإسلامية فكريا وبالتالي عمليا ، كما تبين من خلال ذلك أيضا السبب الذي لولاه ما أنزل القرآن الكريم ، والذي كان يتم التعتيم عليه كليا وما زال والذي يحدد الرسالة المنوطة بنا أمام العالم ، وهذه الدراسة تم نشرها بمجلة الديمقراطية العدد 6 باب ردود وتعليقات ، كما تبع ذلك بيان عيوب وسلبيات المناهج الإسلامية القائمة من خلال دراسة بعنوان " الإسلام وفوضي المفاهيم " منشورة بالعدد 7 بنفس المجلة ونفس الباب ، هذا بخلاف ما لم ينشر تحت عنوان " الدين والديمقراطية والتحديث " ، " الإسلام ملف محوري " والذي يوضح خطأ العديد من المفاهيم الشائعة ، والتي أربكتنا على مدى تاريخنا الإسلامي كله .
وهذه الدراسة تهدف إلى بيان كيفية مسايرتنا لركب الحضارة الإنسانية ، ومدى ملائمة قيم الليبرالية والديمقراطية مع قيمنا الدينية .
والعجيب أن ما سبق جميعه لم يحرك ساكنا عند أي أحد من النخب أو القائمين علينا على الرغم من مطارداتي لهم .
وما أشرت إليه ما هو إلا تتابع منطقي لاكتشاف ، والنتيجة التكنولوجية تقول بأن فكرة الاكتشاف واعدة ، ولا يتبقى سوى المناقشة في مناخ يتسم بالحرية الفكرية ، عن طريق محاولات النقد والتكذيب واستبعاد الخطأ ، واستكمالا بإضافات لنصل سويا إلى أكثر الأفكار قربا من " الحق / الصدق " سواء كانت رؤيتي هذه أو غيرها إن وجدت .
ويضع كل منا في الاعتبار أن فكرته خاطئة تحتمل الصواب ، وفكرة غيره صواب تحتمل الخطأ ، لنتحاور جميعا حتى نقترب من الحقيقة في توجه عام قبل أن نبدأ في التنفيذ .
وأود أن أنوه على أنني لا أتحدث عن الجانب الإيماني ، والدراسة جميعها تترك هذا الجانب الغيبي لأنه جانب شخصي بحت أهم سماته الإيمان بالغيب هذا من جانب ، ومن جانب آخر فهو مجال لا يخضع لعمليات النقد والتكذيب .
وعليه فإذا ما افترضنا أن القرآن الكريم كتاب مجهول المصدر والهوية ، أو إذا ما اختزلناه إلى إطار فكري ، وأخضعناه إلى عمليات النقد والتكذيب لوجدناه هو الإطار المطلق الذي يهيمن على كل الأطر التي عرفناها .
ونعتمد في هذا على ما ثبت لدينا بأنه إطار شامل ولاعتقادي في أنه من عند الله جل جلاله .
فإذا ما تعاملنا معه من هذا المنطلق فسوف نجد فيه المبادرة لتصحيح ما نختلف حوله دون خيارات عديدة يتم اللجوء إليها ، وباستمرار عمليات إخضاعه للنقد والتكذيب قد نصل إلى حقيقة الاطمئنان إليه والتسليم بما جاء بهذا الكتاب حتى في الجوانب الغيبية .
وعليه نكون قد وضعنا المقومات الأساسية لقهر عجزنا ، من خلال قيمنا نحن الأساسية مضافا إليها ما هو صحيح من علوم ومعارف إنسانية أخرى ، وليس بقيم مستوردة من الخارج غالبا ما تلفظ من خلال المقاومة الداخلية التي تعلم أنها دخيلة عليها فلا تقبلها .
يجب أن نفتح بين دفتي القرآن الكريم ليتعايش معه الناس وليس لقراءته فقط والتي لا يرى فيها بعض المتدينين سوى جرس موسيقي ( سيمفونية تتعامل مع الوجدان مباشرة ) وليس كألفاظ تحمل معنى ، لذا تركناه مغلقا وتعاملنا مع أفكار بالية عفي عليها الزمن إلا قليلا بديلا عن التعامل معه (
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) .
قد أكون على صواب لو وضعت في اعتباري أن ما قدمته يعبر عن الإرهاص الذي بشر به الأمين العام للأمم المتحدة من رؤية راديكالية جدا تنشأ عنها ثورة فكرية مستمرة مرجعها القرآن الكريم ، قادرة على تخطي العوائق القائمة أمام التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، ولم يتبقى سوى مناقشتها والإعلان عن امتلاكنا إياها بعد إقرارها ، ثم نقوم بتنفيذها .
وهذا ليس بالعسير علينا إنشاء الله .
فلنبدأ من أي مكان وسوف تمتد بالعدوى لتشمل العالم كله طالما كانت صحيحة فتستمر .
وإن كان لدى أحدكم رؤية أخرى توصلنا إلى تصحيح مسارنا أو لما هو أصلح لنا ، فليبادر بها لنضعها تحت المنظور النقدي .
كتبت هذه الدراسة في صيف 2003
احمد شعبان محمد


0020108144689